
بقلم نور كرم
قد جاء يومُ التسليم يا سيّد "عاصم"... ماذا ستفعل الآن!؟
قال "ماركو" بخبثٍ وهو يحدّق بالآخر، ليتنهد بعمق ويلتفت إليه ويرمقه بنظرة جانبيّة حادّة قائلاً:
_ اليوم… سأبعث "عزّام" إلى المستودع لتسليم البضاعة… وطبعًا سيكون مجرد طُعم صغير، لنتخلّص منه!!
_ لا أريد لعبًا بعد الآن… لقد اكتفيتُ من غبائكم هذا!
قالها بتوبيخٍ سامّ، قبل أن يدير له ظهره من جديد وصاح بأمرٍ حاد:
_هيا… اغرُب عن وجهي!!
كانت نظرات الغِل تتطاير من عينيه، ولكنه يجب أن يصبر عليه… ويقسِم بأنه سيقتله بيده.
عاد أدراجه بهدوء، ليدلف خارج المكتب ذاهبًا إلى "عزّام" كما طُلب منه… للاستعداد لنهايته هو الآخر!
• • • •
وبعد مرور ساعات…
كان يقف ذلك الحقير المدعو بـ"عزّام" في منتصف الميناء، واضعًا يديه خلف ظهره بوقاره المعتاد… تتلاطم خصلاته القصيرة مع نسمات الرياح العابرة.
ضيّق عينيه من الشمس المُسلّطة عليه، رفع كفّه ليحتمي من توهّجها… ليجد إحدى السفن التجارية آتية عبر البحر… وخلفه يتشكّل كثيرٌ من الرجال المسلّحين، يعتلي وجوههم الهيبة والرسميّة القاتلة… ونظّارات سوداء تليق ببذلاتهم السوداء…
عزّام بيه… عامل إيه!!
هتف بها ذلك المدعو بـ"رشاد"، وهو أحد رجال العصابة المتورّطين في سفك ونشر الوباء… كأنهم سُمّ قاتل يقتّل أرواح أبطالنا… وأبنائنا الأعزّة… ليتمتع أمثالهم بالثراء الفاحش ببعض الأموال التي ستفنى مثلهم تمامًا!
ولن يتبقّى منها إلا ترابًا لا يرفع ولا يغفر خطاياهم.
ارتسمت على ثغر عزّام ابتسامة رسميّة، وتنهد قائلاً:
- أهلًا بيك يا رشاد بيه… عامل إيه!؟
_ أنا بخير!
قالها بجديّة معهودة، قبل أن يرتدّ خطوة إلى الوراء مشيرًا بيده إلى السفينة الضخمة المُكدّسة بالصناديق قائلاً بهدوء:
_ دي كل البضاعة… تقدر حضرتك تكشف عليها بنفسك، وبعد كده آخد فلوسي.
هزّ عزّام رأسه بهدوء، بينما رشاد يرمقه من أسفل لأعلى بابتسامة جانبيّة غريبة… لم يعرف لماذا لم تُريحه تلك الابتسامة… وكأن خلفها سرًا لم يعرفه بعد!
وضع يده في جيبه وأشار لرجاله ليتأكدوا من البضاعة كما طُلب منهم…
وفعلًا تحرّكوا…
ولكن في غفلةٍ، وفي لحظةٍ لم يُحتسب لها حساب…
أنظارٌ اخترقت هدوء المكان… نظرات للموت المحكم…
وذلك الذي لم يحتسبه ذاك الحقير أبدًا… أن يُغدَر به في تلك الليلة، بالأخص الليلة التي لطالما تمنى مجيئها… ليأخذ بعدها أرواحهم ويعيد ما خسروه من مال كثير!!
اندلعت المواجهة…
سقط الرجال بأسلحتهم على الأرض بعد معارضة شرسة وكثير من القتلى…
وحاول عزّام الهرب من أقرب طريق، ولكنه لم يلحق…
إذ بالضابط خلفه، رافعًا سلاحه، يهدر بتهديدٍ صادق:
_ أثبُت عندك يا عزّام… الميناء كله محاصر… سلّم نفسك!!!
أدركه الخوف وهو يرميه بنظرة غاضبة… ثم أغمض عينيه بضيق شديد، قبل أن يهوِي راكعًا على الأرض مكبّلًا من رجال الشرطة هو وجميع أعوانه القاتلة…
_ بقى بتخونّا يا عزّام!!؟
صاح "رشاد" بغضبٍ عارم، وعلى وشك الفتك به… يقسم لولا الأساور حول رسغه… لخنقه بأنامله حتى الموت…
أنزل عزّام رأسه بخيبة، بعدما صدح الضابط بأمره… ليُساق إلى السيارة مكبّل اليدين… ينتظره مصيرٌ أسود…
مصير لم يحتسبه يومًا…
ولم يتوقع أن نهايته ستكون بهذه البساطة… أبدًا.
ظنّ أنّه وصل إلى النهاية… غير مدركٍ أنّ الفاجعة الكبرى ما زالت في الطريق.
• • • •
بعد مرور يومين…
لم يتغيّر في حياتها الكثير، سوى ذلك الخبر الأسود الذي انتشر خصيصًا… خبرٌ أعلن مقتل أحد رجال الأعمال الكبير "عزّام الأسعد" على يد أحد زملائه في السجن، خبرٌ لم يكن سوى خيطٍ من خيوط الخيانة التي نسجها "ماركو" و"عاصم" بإحكامٍ قاتل.
كانت تجلس على فراشها منذ ليلة عودتها إلى المنزل… لم تتذوّق طعم النوم لحظة واحدة.
كلما أغمضت جفونها هاجمها وجهه… فانفزعت من نومها كمن يسقط في هاوية لا قرار لها.
الخوف يشتعل في صدرها…
والذنب ينهشها نهشًا…
ذلك الوهم الذي صدّقته كأنها هي من قتلته، كأن روحه خرجت بسببها، كأن ابتعاده عنها كان عقابًا لها وحدها…
لم تفارقها فكرة واحدة:
لو لم تكن هي… لما مات الآن! لما غاب… لما اختفت ملامحه الدافئة من حياتها إلى الأبد.
مسحت دموعها… لكن عينيها كانت شاحبة، متورّمة، فقدت بريقها كما فقد وجهها كل شيء عدا الحزن والخزي.
اتّكأت على نفسها بضعفٍ يُوجِع النظر… ثم أخذت هاتفه بين يديها، تقبّل صورته التي التقطتها له خلسة…
فهذا آخر ما تبقّى لها منه… آخر ما تملكه من عمره.
خرج صوتها متكسّر، يتعثّر في حلقها، محمّلًا بالحنين المُهين للروح، كأن كل كلمة تنزف من قلبٍ يتهاوى:
_ وحشتني… أوي يا علي.
وحشني حضنك… نفسك… عيونك… كلامك… وحنّيتك…
موت وسبتني ليه؟ هو إنت مش وعدتني؟
مش قولتلي إنك بتحبّني؟!
اشتد بكاؤها، وتدفّقت دموعها كأنها تخون مقاومتها، لتُكمل بصوتٍ منهار:
_ إنت مشيت ليه؟!
طب ليه حتى ماخدتِنيش معاك؟
كنت بحلم يكون لينا بيت… وولاد… وحياة حلوة!
طب دلوقتي؟…
هعمل إيه؟
من غيرك… أعمل إيه؟
أكيد إنت دلوقتي عند ربنا… شهيد…
قولّه يعطف على قلبي…
ياخدني ليك…
أنا مش قادرة أستحمل بعدك…
مش قادرة أوصفلك قد إيه وجع بعدك ده بيقتل فيّ كل يوم…
محتاجاك يا علي… محتاجاك أوي!!!
ازداد نحيبها، كأنه يملأ الغرفة حتى ضاقت به الجدران.
دفنت وجهها في كفّيها، أخرجت صرخة مكتومة، صرخة وجعٍ لم يترك شيئًا إلا مزّقه…
ارتجفت أطرافها، وتشنّجت أعصابها…
كيف لا؟
وهو لم يعد موجودًا.
وككل ليلة…
انتهى بها الحال وهي تدفن وجهها في وسادتها،
فاقدة الوعي من شدّة الألم الذي التهمها…
كأن قلبها هو الذي مات… لا "علي".
وبات الألم وحده شاهداً على غيابه… لا عزاء، لا وداع، لا نهاية.
ومع كل نفسٍ تختنق به، شعرت أنّه رحل إلى الأبد… وتركها وحيدة مع وجعها....!
• • •
كانت تغفو… ذلك النوم الهشّ الذي يشبه السقوط في هاوية، حتى دلفت إليها والدتها بخطى مترددة، خطوات تحمل ثِقل قلبٍ يتألم عليها، وعينٍ لا تحتمل رؤية فلذة كبدها بتلك الحالة المُذريّة.
وضعت كفها برفق على كتفها، تهزّها ببطء كي تستفيق، تهمس بصوتٍ مرتجف:
– هند… هند يا حبيبتي!
لكن لا ردّ…
جسد ابنتها ساكن، وكأن الروح تائهة بين الحياة واللاوعي.
حاولت والدتها مرّة… ثم الثانية… ثم الثالثة، حتى فتحت "هند" عينيها فجأة وهي تشهق… شهقة كأن روحها كانت تُنتزع من صدرها.
– اسم الله عليكِ يا روحي!؟
قالتها أمها بفزع، تهرع لتربّت على ظهرها حين داهمتها نوبة سعال حادّة.
ناولتها كوب ماء، لتتناوله "هند" بأنامل مرتجفة، ارتشفت قليلًا ثم أبعدته… يدها ترتجف، حلقها يختنق، كفّها تحوط عنقها كأنها تحاول الإمساك بأنفاسها قبل أن تفلت منها.
ثم رفعت رأسها…
وعيناها جاحظتان، مكسورتان، كأنهما تحملان العالم فوقهما، ورمقت والدتها بنظرة تمزّق القلب وهي تبكي بكاء هستيري ممزق:
– ماما… علي!؟
أنـ… أنـا شوفته! كان بيقولي… إني السبب! لولا دخلت حياته… مكنش مات! كان زمانه عايش وسطنا!!
انفجرت الأم في بكاء مقهور على حال ابنتها، احتضنتها، تربّت على خصلاتها بحنان أمٍ تتمنى لو ترث الألم بدلًا منها…
ضمتها لصدرها بقوة وهي تقول من بين دموعها التي تحاول كتمها بكل ما بقي فيها من صبر:
– هششش… إهدي يا حبيبتي. ده كابوس… يا روح ماما إهدي بالله عليكِ، قلبي بيتقطع عليك!
لكن هند انهارت أكثر، تشبثت بقميص أمها، وبدأ بكاؤها يتحول لصراخ موجوع:
– آه يا ماما… أنا السبب! لو مكنتش معاه… مكنش مات دلوقتي!!!
– ده قدر ربنا يا بنتي… مااعتراض على حكمه. لا إله إلا الله… يا رب هون عليها!
قالتها الأم وهي ترفع بصرها للسماء، وكأنها تستغيث بالخالق أن يطفئ النار المشتعلة في قلب ابنتها.
ارتخت أعصاب "هند" قليلًا بعد صراع طويل، لكنها كانت تهذي… تهذي بأنها القاتلة… بأنها السبب… بأن روح "علي" خرجت بيدها، لا بيد الخونة الحقيقيين.
جسدها كله كان يرتجف، أنفاسها مبهورة، وكأنها تبحث عن الهواء ولا تجده.
احتضنتها أمها بأصابع تهتز، تمسح على كتفيها وظهرها، تبكي في صمت، وتقول بصوت مكسور مُتعب:
– روح ماما… قلبها…
متتعبنيش أكتر من كده يا هند. أنا آسفة يا بنتي… آسفة عليكي من الدنيا، ومن الناس، ومن الوجع اللي مالوش آخر.
يا ريت… يا ريت لو أقدر آخد وجعك ده مكانِك… والله كنت خدته.
يا ضنايا… ولا أشوفك بتتعذبي اللحظة دي ولا لحظة واحدة كمان!
دفنت وجهها في شعر ابنتها، تستنشق رائحتها وكأنها تريد التأكد أنها ما زالت هنا، قريبة، حيّة. قبّلت مقدمة رأسها، ومسحت على وجهها برفق حتى هدأت قليلًا… لكن رجفتها لم تهدأ.
وفجأة!
دوّى طرقٌ حاد على الباب.
رفعت الأم رأسها بدهشة وقلق، ثم همست لابنتها بحنان:
– ثواني يا روحي… هشوف مين.
وقفت ببطء… تمسح دموعها بظهر كفها، ترتّب حجابها، وتجرّ خلفها همًّا أثقل من جسدها.
فتحت الباب… لتصطدم عيناها بوجه "العاصم"، واقفًا بابتسامة سمجة تقطع النفس.
– السلام عليكم… عاملة إيه؟
قالها وكأنه لم يكن سبب دمار بيت بأكمله.
احتدت نظراتها، تجمّد الهواء حولها، وزمجرت بوجهه:
– إنت إيه اللي جابك هنا!!؟
قطّب حاجبيه باستهكار، وكأنه هو المظلوم لا القاتل.
– هو إحنا مش اتفقنا إني هرجع بنتِك وأتجوزها؟
ثم أكمل بفتور بغيض:
– أفندم… أنا جيت أشوف خطيبتي.
– خطبتك في عينك يا شيخ!
صاحت بها كالرعد.
– خطيبة مين يا سيادة الوزير؟ فاكرني هفضل مغشوشة في واحد… خاين لبلده، وخاين لنفسه… وعامل فيها ملاك بريء!!
لم يردّ… زفر فقط، وكأنه هو المجروح!
ثم تخطّاها بوقاحة ودخل البيت كأنه بيتُه، ينادي:
– هند!؟
هند يا حبيبتي… انتي فين!!؟
كانت هند على فراشها، تطوي نفسها حول وجعها… أذناها لا تسمعان سوى بكاءها المكتوم.
لكن حين سمعت صوته… حدث شيء بداخلها.
قامت أمها بغضب لم تظن يومًا أنه يسكنها، ركضت إلى الغرفة، فتحت الباب بعنف، وزأرت بوجهه:
– إنت كمان ليك عين تجي هنا يبن الـــ…!!؟
هجمت عليه، دفعت صدره بكل ما بقي في جسدها من قوة، تصرخ:
– اطلع براااااا… برا مش عايزة أشوف وشّك!!
أقسم بالله… لو ما طلعتش، هقتلك! هقتلك وادخل فيك السجن… يلا برااااا!!!
– إهدي بس يا هند… إهدي يا حبيبتي، أكيد إنتِ زعلانه مني.
قالها وكأنه يواسي طفلة… لا امرأة قتل زوجها.
نظرت له بصدمه… جنون؟
– حبيب مين؟ ده إجنتَ قتلت جوزي!… إنت قتلتُه بدم بارد قدام عيني!
صرخت بها حتى تكسّر صوتها.
اشتعل وجهه غضبًا ممسوحًا بالغيرة:
– حبيب مين!!؟
مفيش غيري حبيبك… وأنا جوزِك. وهتجوزك… وهُنسّيكِ، والله هنسّيكِ!!
قهقهت ضاحكة ضحكة موجوعة ساخرة:
– لأ… إنت أكيد مجنون.
ثم هتفت بوجهه بغضب أسود:
– اطلع برا… مفيش غيره يقدر يتجوزني.
لا إنت… ولا عشرة زيك يقدروا ياخدوني غصب.
أنا أموت… ولا أكون معاك ليلة واحدة!!!
دفعته من جديد:
– غور… غور من وشي يا ابن الـــ… اطلع برا!!!!
أمسك يدها بعنف، يشير بأصبعه لوجهها وينفث سمّه:
– أنا هسيبك دلوقتي… عشان إنتِ مش على بعضك.
بس أول ما تخلص عدتك… هتكوني مراتي.
ومن دلوقتي… انتي خطبتي. وهعلن ده… والناس كلها هتعرف!
– اطلــــــع براااااااا!!!
صرخت حتى اهتزت جدران الغرفة.
تنهد هو… ببرود قاتل، ثم قال بجنون ناعم:
– خلاص… هسيبك ترتاحي. وهجيلِك بعدين يا حبيبتي.
غادر.
وبمجرد أن أغلق الباب خلفه… انهارت هند.
ركضت إليها أمها، احتضنتها وهي ترتعش، تحاول تهدئتها، ولكن دون جدوى.
كانت هند تصرخ… وتصرخ… وتصرخ باسم "علي".
حتى فقد صوتها قوّته…
حتى شعرت أن قلبها نفسه يُنتزع من صدرها.
– يا علــــــــــــــي…… آااااااه!!
صرخة لم تكن صرخة بشر… كانت صرخة روح تُسحَب من جسدها.
ثم صمتت فجأة…دوار عنيف…عينان زائغتان…
قلب يضرب أضلعها و كأنه يركض هاربًا…
ألم يمزق معدتها.
أطلقت صرخة قصيرة…
ثم سكنت.
سقطت بين أحضان أمها كدمية بلا حياة.
– يلهوووووووي… بنتي يا هند!!!؟
صرخت الأم بصوت يشق القلوب…
وهي ترى ابنتها ترتخي بين ذراعيها، كأن روحها غادرتها دون سابق إنذار.
• • • •
بعد قليل… في إحدى المشافي.
كانت تمضي عبر ذلك الممر البارد، تتشبّث بخيوط وعيٍ متقطّعة…تحاول أن تُبصر من خلال الضباب الذي يلتفّ حول عينيها، قبل أن تستسلم للسكون وتغيب عن الدنيا في صمتٍ عميق…
وقد جرّها الممرّضون سريعًا إلى غرفة الطوارئ بعد أن لاحظوا نزيفها الغزير.
لحقت بها أمها وهنَّت أنفاسها منهارة،
قلبها يتمزّق هلعًا،
وعيناها تائهتان بين الدمع والقهر…
تتوسّل الله ألا يمسّ ابنتها سوء.
دلفت "هند" إلى غرفة الطوارئ،
وأُغلق الباب خلفهم،
فلم تجد أمها إلا أن تحدّق بظلّها المغيّب بحسرةٍ تشقّ الروح،
تكتم شهقاتها بين كفّيها المرتجفتين،
كأن قلبها يُدفع من حافةٍ عالية إلى هوّة لا قرار لها،
ترى ابنتها على تلك الحال،ولا حول لها ولا قوّة…
تملك فقط الدعاء،
علّه ينتشلها من وحشة أفكارها المسمومة بالفقد والخسارة.
وبعد لحظاتٍ ثقيلة…
خرج الطبيب، يحمل على وجهه مزيجًا من الأسى والهدوء المفجع.
قال بصوتٍ خافتٍ يصفع القلب:
_ الحمد لله… قدِرنا نوقّف النزيف، وهي دلوقتي بخير.
بس للأسف… مقدرناش ننقذ الجنين. البقاء لله.
شهقت الأم وكأن بابًا من الجحيم فُتح داخل صدرها:
_ يلهووي!؟ جنين!!؟
بنتي… بنتي كانت حامل!!؟
ارتجّ صوتها واهتزّت له الجدران،
ثم أكملت بانهيار يمزّق الروح نصفين:
_ آه يا "هند"… آه يا قلب أمك!
قال الطبيب برجاءٍ هادئ:
_ لو سمحتي يا هانم… متعمليش كده. ده قَدر ومكتوب.
تنهد قليلًا ثم أضاف:
_ وبعد إذنك… كلّمي جوزها. هي طول الوقت بتنادي عليه… والأفضل يبقى موجود.
شهقت الأم وكأنها تُطعَن من جديد:
_ جـ… جوزها!؟
جوزها مات يا دكتور…
مات!
مال الطبيب برأسه بأسفٍ حقيقي:
أنا آسف… البقاء لله.
المهم… هنقلها أوضة عادية دلوقتي. محتاجين نفضل متابعينها يومين.
_ ماشي…
قالتها بصوتٍ ضعيف منهار.
هزّ الطبيب رأسه برفق:
_ تمام… وحضرتِك كمان لازم ترتاحي شوية، بعد إذنك.
ثم تركها ورحلو وهي بقيت وحيدة،
قلبها يتقطّع خوفًا وألمًا على فلذة كبدها…
لم تجد إلا أن ترفع بصرها إلى السماء ويديها ترتجفان بالدعاء،
خرج صوتها منكسرًا، أقرب للرجاء منه للكلام:
_ يا رب… مليش غيرك.
أرجوك يا رب… معنديش غيرها.
رجّعهالي بخير…
رجّعهالي يا رب… وارحمني برحمتك.
عمّ الصمت المكان،
ولم يعلُ على الوجود إلا صوت نحيبها،
ما بين الرجاء… وما بين الألم.
• • • •
كانت تجثُو فوق ذاك الفِراش الصغير، يحاوطها صمتُ الأجهزة بإشعاراتٍ بطيئة، كأنها تُعلن أنفاسًا مُعلَّقة بخيطٍ واهن. كانت عيناها تفتحان بثقل، تشعر به… تشعر بأنفاسه قريبة، ولكنها لا تقوى على إدراك ما يحدث. كانت رؤيتها تتأرجح بين الوعي واللاوعي، ومع ذلك… ترى وجهه أمامها، يبتسم لها بحبٍ يعرف الطريق إلى روحها.
_عـ… علي؟"
همست بها بضعف، ليتبعها ملمس قبلةٍ حنونة سقطت على وجنتها بدفءٍ جعل قلبها يرتجف، كأنه عاد يتذكّر حضنه… حنانه… ذلك الدفء الذي لم تنسه يومًا.
_هششش… أنا هنا ، جنبك يا قلب علي.
كانت الهمسة كفيلة بأن تبكي قلبها قبل عينيها؛ فرفعت نظرتها إليه، تحدّق في ملامحه وكأنها تنقشها في ذاكرتها. ثم همست بصوتٍ منكسر يحمل ألف غصة:
_ إنت… إنت مشيت ليه؟ وحشتني أوي يا علي… شايف؟ شايف اللي حصل لي بعدك؟
اقترب أكثر، صوته يتنفس دفئًا وحبًا وهو يقول:
_ روح علي… وقلب علي… أنا ما مشيتش يا هند. أنا معاكِ… شايفك طول الوقت، وماسبّتِكيش لحظة.!
ابتسمت ابتسامة صغيرة، متعبة لكنها مليئة بالحب، تحدّق في عينيه قبل أن تثقل أجفانها من جديد، فتغيب كما لو أنها غادرت بلا هوادة… بلا مقاومة.
وحين خفَت وعيُها، اختفى هو أيضًا… كأن وجوده لم يكن سوى ظلٍّ أسود يحرسها من وحشة ما رأته.
• • • •
وبعد مرور يومين…
كانت قد عادت من المشفى،
وتهبط درجات السُّلَّم بخطىٍ مُثقلة، كأن وقعها يحمل ما تبقّى من إرهاقٍ في جسدها وروحها،
حتى ناداها حارس البناية مُخبرًا إياها بأنّ شخصًا ما يسأل عنها.
تشنَّج صدرها للحظة…
وخَفَق قلبها بانقباضٍ حادّ،
إذ خُيِّل إليها أنّ الطارق قد يكون ذلك الحقير المسمّى «عاصم».
لكن…
ما إن لمحَت هيئة الرجل الواقف في الداخل،
حتى ارتخى ذلك التوتر الخانق، وإن ظلَّ جسدها يرتجف بخيطٍ خفيف من الحذر.
لم يكن هو.
لكن… من يكون هذا؟
كان يقف في عمق البناية…
طويلًا، فارع القامة، شامخًا كهيئة صقرٍ يراقب الأفق.
في حضوره مهابةٌ حادة، وسكونٌ يسبق العاصفة.
تقدّمت خطوة، وقالت بدهشةٍ تعلو ملامحها:
_ مين حضرتك!!؟
انعقد حاجبها باستفهامٍ متوتر،
ثم التفت هو إليها…
التفت كأن الزمن يستدير معه،
وثغره يرسم ابتسامةً يكسوها حنينٌ ممزوج بالشوق والألم الخافت.
وقال بنبرةٍ يتخفّى المزاح بين طيّاتها:
_ وحشتني يا مسكره!!
اتَّسعت عيناها فجأة،
وامتدَّت الصدمة على ملامحها حتى ارتجف صوتهـا وهو ينفلت من بين شفتيها:
_ عــــلــــي!!!!؟
خرج الاسم مختنقًا…
كأنه ليس نداءً، بل ارتجافةُ روحٍ رأت ما ظنّت أنه لن يعود أبدًا.